عبقت رائحة الغبار بأنفي وانتشرت بالجو المحيط بي، عندما أطلقت نفسا عميقا على سطح غلاف أحد دفاتر قصصي القديمة، كان ذلك بناء على طلب شخص عزيز علي ، طلب مني أن أحضر إليه هذه القصص لأقرأها له حيث يقيم الآن، ولم أكن لأفعل هذا وأعود للوراء بضع سنين، وأن أتكلف عناء إخراج الدفتر من بين الدفاتر القديمة من الصندوق الخشبي العتيق، لولا إلحاحه علي، ولأن حالته لم تكن تسمح لي بعصيان طلب كهذا أو أشد منه، ولولاه لما قمت بالتقليب بين صفحات الماضي.
ذلك أن صاحبنا راقد في مستشفى بعد أن أخرجوه من فم الموت إثر حادث أليم تعرض له قبل أسبوع وبعض أيام، ولم يخرج من العناية المركزة، إلا منذ أيام قليلة وما شفيت جراحه العديدة بعد، زرته بالأمس، فذكرني بكتاباتي التي غابت عن ذهنه منذ وقت طويل، وسألني أن أحضرها له، أذكر أنني لا أذكر ما الذي أصابني حين أخبروني بما حدث له، ربما كنت في عداد الميتين، ومعه في غرفة العناية، وخرجت منها عندما خرج، لست أنسى شحوب وجهه في الصباح عندما كان يتكلم بين الحين والآخر متثاقلا بصوت ضعيف.
جراح كثيرة في جسمه، منها العديد في صدره مع كسور في الأضلاع، لقد ألبسوه فوق الضمادات التي لفوا بها قسما من صدره قميصا ولا أدري لماذا، ربما لكي لا يرتعب أمثالي من أصحاب القلوب الضعيفة من لونها الأبيض .
وقد أتيت الآن إليه في المساء، ينفتح المصعد على باب القسم المتواجد فيه، كان الوقت عصرا،
وقد مالت الشمس نحو الغرب ،وعندما دخلت إلى الغرفة وجدت ذلك الوجه المتعب، ينتظرني بطيف ابتسامة منهكة، وكأنه استخرجها من ذاكرة بعيدة، ليسدي إلي خدمة بتحامله على الجسد المرهق، ويمنحني ابتسامة غير كاملة، ساعدت جسده المتثاقل على أن يعتدل من نومته إلى وسادة خلف ظهره، كان يكتم الأنات، طلب إلي أن أبعد الستار قليلا عن وجه الشباك، فدخل شيء من شعاع الشمس المسافر، إلى غرفته في المشفى، ولم تجد مكانا غير وجه أصفر لتستقر عليه فتزيده صفرة على صفرته، كان لون وجهه أكثر ما يقلقني، وإن كان صاحبنا يكتم أنات جراحه، فلقد كتمت صراخ أوردة وشرايين تمزقت وجلا وفزعا عليه، استعجلني بقراءة شيء ما من الدفتر القديم، وحاولت أن ألهيه ببعض الأمور التي جرت أثناء رقاده في مشفاه، لكنه كان يذكرني بالدفتر، ويستعجلني لأنهي هذه الحكايا، وأقرأ من الدفتر المطلوب.
سلمت لله أمري، صرت أقلب بين الصفحات القديمة التي اهترى بعض هوامشها من عصور الخزين، واستقريت على صفحة كنت أحبها جدا وبدأت أقرأها بصوت ذي شجن، وكان نعم المستمع، أحسست بأني أقرأ رواية عالمية على مسامعه من فرط إعجابه بالكلام الذي سبق وسمعه مني من قبل ويعود ليسمعه مني مرة أخرى بناء على طلبه، ويبدو أن القراءة قد أخذتني وأنشأت أقرأ بانسجام، ولم أنتبه إلا عندما أطلق أنة مدوية، خرجت عن صفوف الأنات المكتومة، مما أفزعني وحدا بي لأن ألقي الدفتر على حافة السرير، لقد كان متألما جدا، فقطب جبينه، وأمسك بيده ما ظهر من جرحه محاولا أن يخفي النزيف الذي فضح الجراح بلونه الأحمر الذي تفشى على الضمادات، لقد تخلى عن صبره، لأن جراحه آلمته، وأنا طار عقلي مما رأيت، فركضت نحو الممر أطلب النجدة.
جاءوا يتراكضون وأخرجوني من الغرفة عنوة، وملئوا المكان، وضاع السرير والدفتر بين الثياب البيضاء.
لا أعرف كيف خرجت من هناك، وأحسست بأني أصابتني عدوى الشحوب، فاصفر لوني حتى قاموا بمعاينتي للصدمة التي أصابتني، وبعد ذلك منعوا الزيارة عنه لأجله ولأجلي.
كنت أزور المشفى يوميا رغم أن أملي برؤيته ضعيف، لم أتمكن من رؤيته.
عدت بخفي حنين أكثر من مرة، ولم يكن بيدي سوى أن أدعو الله أن يتلطف به وبنا.
انتظرت طويلا
وبكيت كثيرا
إلى أن بشرني أحدهم بأنه بدأ يستعيد عافيته، فما أسعدني بهذه البشرى.